فصل: قال الشعراوي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وهذا أيضًا فاسد. فإن هذه الصورة المعينة، وإن كانت سبب النزول، فالقرآن لا يقتصر به على محالّ أسبابه. ولو كان كذلك لبطل الاستدلال به على غيرها. وقالت طائفة: بل الآية منسوخة بقوله: {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ} (32)، وهذا أفسد من الكل. فإنه لا تعارض بين هاتين الآيتين. ولا تناقض إحدى الأخرى. بل أمر سبحانه بإنكاح الأيامى، وحرم نكاح الزانية، كما حرم نكاح المعتدة والمحرمة وذوات المحارم. فأين الناسخ والمنسوخ في هذا؟ فإن قيل: فما وجه الآية؟ قيل: وجهها، والله أعلم. أن المتزوج أمر أن يتزوج المحصنة العفيفة، وإنما أبيح له نكاح المرأة بهذا الشرط. كما ذكر ذلك سبحانه في سورتي النساء والمائدة. والحكم المعلق على الشرط ينتفي عند انتفائه. والإباحة قد علقت على شرط الإحصان، فإذا انتفى الإحصان انتفت الإباحة المشروطة به. فالمتزوج إما أن يلتزم حكم الله وشرعه الذي شرعه على لسان رسوله، أو لا يلتزمه. فإن لم يلتزمه فهو مشرك لا يرضى بنكاحه إلا من هو مشرك مثله، وإن التزمه وخالفه، ونكح ما حرم عليه، لم يصح إنكاح. فيكون زانيًا، فظهر معنى قوله: {لا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً} وتبين غاية البيان. وكذلك حكم المرأة. وكما أن هذا الحكم هو موجب القرآن وصريحه، فهو موجب الفطرة ومقتضى العقل. فإن الله سبحانه حرم على عبده أن يكون قرنانًا ديوثًا زوج بغي. فإن الله تعالى فطر الناس على استقباح ذلك واستهجانه. ولهذا إذا بالغوا في سبّ الرجل قالوا: زوج قحبة، فحرم الله على المسلم أن يكون كذلك. فظهرت حكمة التحريم وبان معنى الآية. والله الموفق.
ومما يوضح التحريم، وأنه هو الذي يليق بهذه الشريعة الكاملة، أن هذه الجناية من المرأة تعود بفساد فراش الزوج، وفساد النسب الذي جعله الله تعالى بين الناس لتمام مصالحهم. وعدّوه من جملة نعمه عليهم، فالزني يفضي إلى اختلاط المياه واشتباه الأنساب. فمن محاسن الشريعة تحريم نكاح الزانية حتى تتوب وتستبرأ. وأيضًا، فإن الزانية خبيثة، كما تقدم بيانه والله سبحانه جعل النكاح سببًا للمودة والرحمة، والمودة خالص الحب، فكيف تكون الخبيثة مودودة للطيب، زوجًا له؟ والزوج سمي زوجًا من الازدواج فالزوجان، الاثنان المتشابهان والمنافرة ثابتة بين الطيب والخبيث شرعًا وقدرًا. فلا يحصل معها الازدواج والتراحم والتوادّ. فلقد أحسن كل الإحسان من ذهب إلى هذا المذهب، ومنع الرجل أن يكون زوج قحبة. فأين هذا من قول من جوز أن يتزوجها ويطأها الليلة، وقد وطئها الزاني البارحة؟ وقال: ماء الزاني لا حرمة له. فهب أن الأمر كذلك، فماء الزوج له حرمة فكيف يجوز اجتماعه مع ماء الزاني في رحم واحد، والمقصود أن الله سبحانه سمى الزواني والزناة خبيثين وخبيثات. وجنس هذا الفعل قد شرعت فيه الطهارة، وإن كان حلالًا. وسمي فاعله جنبًا لبعده عن قراءة القرآن وعن الصلاة وعن المساجد. فمنع من ذلك كله حتى يتطهر بالماء. فكذلك إذا كان حرامًا يبعد القلب عن الله تعالى وعن الدار الآخرة. بل يحول بينه وبين الإيمان، حتى يحدث طهرًا. كاملًا بالتوبة. وطهرًا لبدنه بالماء. وقولُ اللوطية: {أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ} [الأعراف: 82]، من جنس قوله سبحانه في أصحاب الأخدود: {وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} [البروج: 8]، وقوله سبحانه: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ} [المائدة: 59]، وهكذا المشرك إنما ينقم على الموحد تجريده للتوحيد، وأنه لا يشوبه بالإشراك، وهكذا المبتدع إنما ينقم على السنّي تجريده متابعة الرسول وأنه لم يَشُبْها بآراء الرجال ولا بشيء مما خالفها، فصبر الموحد المتبع للرسول، على ما ينقمه عليه أهل الشرك والبدعة، خير له وأنفع، وأسهل عليه، من صبره على ما ينقمه الله ورسوله، عليه من موافقة أهل الشرك والبدعة.
إذا لَمْ يَكُنْ بدٌّ من الصبرِ فاصْطَبِرْ ** على الحقِّ ذاكَ الصبرُ تُحْمَدُ عُقْبَاهُ

لطيفة:
كتب ابن القاضي شرف الدين ابن المقري، صاحب الروض إلى أبيه، وقد قطع نفقته:
لا تقطعنْ عادةَ بَرٍّ ولا ** تجعلْ عتابَ المرءِ في رزقِهِ

فإن أمرَ الإفكِ مِنْ مِسْطح ** يحط قدر النَّجْم من أُفْقِه

وقد جَرى منه الذي قد جَرى ** وعُوتِبَ الصدّيق في حقِّهِ

فأجابه أبوه شرف الدين بقوله:
قَدْ يُمْنَعُ المُضْطَرُّ مِنْ مَيْتَةٍ ** إِذا عَصَى بالسَّيْرِ في طُرْقِهِ

لأنه يَقْوَى عَلَى تَوْبةٍ ** تُوْجِبُ إِيصالًا إِلى رزقِهِ

لَوْ لَمْ يَتُبْ مِنْ ذَنبه مِسْطَحٌ ** ما عُوتِبُ الصِّديقُ في حقِّهِ

اه.

.قال ابن عاشور:

{الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ}.
بعد أن برأ الله عائشة رضي الله عنها مما قال عصبة الإفك ففضحهم بأنهم ما جاؤا إلا بسيء الظن واختلاق القذف وتوعدهم وهددهم ثم تاب على الذين تابوا أنحى عليهم ثانية ببراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم من أن تكون له أزواج خبيثات لأن عصمته وكرامته على الله يأبى الله معها أن تكون أزواجه غير طيبات.
فمكانة الرسول صلى الله عليه وسلم كافية في الدلالة على براءة زوجه وطهارة أزواجه كلهن.
وهذا من الاستدلال على حال الشيء بحال مقارنه ومماثله.
وفي هذا تعريض بالذين اختلقوا الإفك بأن ما أفكوه لا يليق مثله إلا بأزواجهم، فقوله: {الخبيثات للخبيثين} تعريض بالمنافقين المختلقين للإفك.
والابتداء بذكر {الخبيثات} لأن غرض الكلام الاستدلال على براءة عائشة وبقية أمهات المؤمنين.
واللام في قوله: {للخبيثين} لام الاستحقاق.
والخبيثات والخبيثون والطيبات والطيبون أوصاف جرت على موصوفات محذوفة يدل عليها السياق.
والتقدير في الجميع: الأزواج.
وعطف {والخبيثون للخبيثات} إطناب لمزيد العناية بتقرير هذا الحكم ولتكون الجملة بمنزلة المثل مستقلة بدلالتها على الحكم وليكون الاستدلال على حال القرين بحال مقارنه حاصلًا من أي جانب ابتدأه السامع.
وذكر {والطيبات للطيبين والطيبون للطيبات} إطناب أيضًا للدلالة على أن المقارنة دليل على حال القرينين في الخير أيضًا.
وعطف {والطيبون للطيبات} كعطف {والخبيثون للخبيثات}.
وتقدم الكلام على الخبيث والطيب عند قوله تعالى: {ليميز الله الخبيث من الطيب} في سورة الأنفال (37) وقوله: {قال رب هب لي من لدنك ذرية طيبة} في سورة آل عمران (38) وقوله: {ويحرّم عليهم الخبائث} في سورة الأعراف (157).
وغلب ضمير التذكير في قوله: {مبرءون} وهذه قضية كلية ولذلك حق لها أن تجري مجرى المثل وجعلت في آخر القصة كالتذييل.
والمراد بالخبث: خبث الصفات الإنسانية كالفواحش.
وكذلك المراد بالطيب: زكاء الصفات الإنسانية من الفضائل المعروفة في البشر فليس الكفر من الخبث ولكنه من متمماته.
وكذلك الإيمان من مكملات الطيب فلذلك لم يكن كفر امرأة نوح وامرأة لوط ناقضًا لعموم قوله: {الخبيثات للخبيثين} فإن المراد بقوله تعالى: {كانتا تحت عبدين من عبادنا صالحين فخانتاهما} [التحريم: 10] أنهما خانتا زوجيهما بإبطان الكفر.
ويدل لذلك مقابلة حالهما بحال امرأة فرعون {إذ قالت رب ابْننِ لي عندك بيتًا في الجنة} إلى قوله: {ونجني من القوم الظالمين} [التحريم: 11].
والعدول عن التعبير عن الإفك باسمه إلى {ما يقولون} إلى أنه لا يعدو كونه قولًا، أي أنه غير مطابق للواقع كقوله تعالى: {ونرثه ما يقول} [مريم: 80] لأنه لا مال له ولا ولد في الآخرة.
والرزق الكريم: نعيم الجنة.
وتقدم أن الكريم هو النفيس في جنسه عند قوله: {درجات عند ربهم ومغفرة ورزق كريم} في سورة الأنفال (4).
وبهذه الآيات انتهت زواجر قصة الإفك. اهـ.

.قال الشعراوي:

{الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ}.
قلنا في تفسير {الزاني لاَ يَنكِحُ إِلاَّ زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً والزانية لاَ يَنكِحُهَآ إِلاَّ زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ} [النور: 3] أن الزواج يقوم على التكافؤ، حتى لا يستعلي طرف على الآخر، ومن هذا التكافؤ قوله تعالى: {الخبيثات لِلْخَبِيثِينَ والخبيثون لِلْخَبِيثَاتِ والطيبات لِلطَّيِّبِينَ والطيبون لِلْطَّيِّبَاتِ} [النور: 26].
ثم يقول سبحانه: {أولئك} [النور: 26] أي: الذين دارتْ عليهم حادثة الإفك، وخاض الناس في حقهم، وهما عائشة وصفوان {مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ} [النور: 26] أي: مما يُقَال عنهم، بدليل هذا التكافؤ الذي ذكرتْه الآية، فمن أطيبُ من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ وكما ذكرنا أن الله تعالى ما كان ليُدلِّس على رسوله صلى الله عليه وسلم ويجعل من زوجاته مَنْ تحوم حولها الشبهات.
إذن: فلابد أن تكون عائشة طَيّبةً طِيبةً تكافي وتناسب طِيبة رسول الله؛ لذلك برَّأها الله مما يقول المفترون.
وقوله: {لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} [النور: 26] مغفرة نزلتْ من السماء قبل القيامة، ورزق كريم، صحيح أن الرزق كله من الله بكرم، لكن هنا يراد الرزق المعنوي للكرامة وللمنزلة وللسمو، لا الرزق الحسيّ الذي يقيم قِوام البدن من أكل وشرب وخلافه. اهـ.

.قال نظام الدين النيسابوري في الآيات السابقة:

{إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ}.
التفسير: إنه سبحانه لما ذكر من أحكام القذف ما ذكر أتبعها حديث إفك عائشة الصدّيقة وما قذفها به أهل النفاق. روى الزهري عن سعيد بن المسيب وعروة بن الزبير وعلقمة بن ابي وقاص وكلهم رووا عن عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد سفرًا أقرع بين نسائه فأيتهن خرج اسمها خرج بها معه فأقرع بيننا في غزوة. قال الزهري: هي غزوة المريسيع. وذكره البخاري في غزوة بني المصطلق من خزاعة. قال: وهي غزوة المريسيع أيضًا. فخرج اسمي فخرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما انصرف وقرب من المدينة نزل منزلًا ثم أذن بالرحيل فقمت حين أذنوا بالرحيل ومشيت حتى جاوزت الجيش، فلما قضيت شأني وأقبلت إلى رحلي لمست صدري فإذا عقد لي من حزع أظفار قد انقطع، فرجعت والتمست عقدي وحبسني طلبه. وأقبل الرهط الذين كانوا يحملون فحملوا هودجي وهم يحسبون أني فيه لخفتي فإني كنت جارية حديثة السن وذهبوا بالبعير، فلما رجعت إلى مكاني وليس به أحد جلست وقلت: يعودون في طلبي فنمت. وقد كان صفوان بن المعطل يمكث في المعسكر يتتبع أمتعته فيحمله إلى المنزل الآخر لئلا يذهب منهم شيء، فلما رآني عرفني وقال: ما خلفك عن الناس؟ فأخبرته الخبر فنزل وتنحى حتى ركبت، ثم قاد البعير وافتقدني الناس حين نزلوا وخاض الناس في ذكري.
فبيناهم في ذلك هجمت عليهم فتكلم القوم فيّ وقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة ومكثت شهرًا أشتكي ولا يرقأ لي دمع أقول كما يقول العبد الصالح أبو يوسف {فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون} [يوسف: 18] إلى أن نزل فيّ {إن الذين جاؤا بالإفك} إلى آخر الآيات. وفي الحديث طول هذا حاصل سبب النزول. وأما التفسير فالإفك أبلغ ما يكون من الكذب والافتراء. وقيل: هو البهتان. والعصبة الجماعة من العشرة إلى الأربعين. والتركيب يدل على الاجتماع ومنه العصابة. قال المفسرون. هم عبد الله بن أبي رأس النفاق، وزيد بن رفاعة، وحسان بن ثابت، ومسطح ابن أثاثة، وحمنة بنت جحش ومن ساعدهم. ومعنى {منكم} أنهم كانوا من جملة من حكم لهم بالإيمان ظاهرًا. أما الخطاب فيب قوله: {لا تحسبوه شرًا لكم} فالصحيح أنه لمن ساءه ذلك من المؤمنين وخاصة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعائشة وصفوان. ومعنى كوكنه خيرًا لهم أنهم اكتسبوا فيه الثواب العظيم على قدر عظم البلاء، وأنه نزلت فيه بضع عشرة آية فيها تعظيم شأن الرسول صلى الله عليه وسلم وتسلية له وتنزيه لأم المؤمنين وتطهير لأهل البيت وتهويل للطاعنين فيهم إلى غير ذلك من الأحكام الشرعية والآداب العقلية. وقيل: الخطاب لعائشة وحدها والجمع لتعظيمها. وقيل: الخطاب للقاذفين وبيان الخيرية صرفهم عن الاستمرار على حديث الإفك إلى التوبة عن ذلك، ولعل في هذا الذكر عقوبة معجلة لهم فيكون في هذا القول الكفارة. وضعف هذا القول بأنه لا يناسب تسلية الرسول والمؤمنين ولا يطابق قوله: {لكل امرئ منهم ما اكتسب من الإثم} أي يصيب كل خائض في حديث الإفك ما يصيبه من عقاب ما اكتسب من إثم الخوض. {والذي تولى كبره} أي معظم الإفك وهو في قول الضحاك حسان ومسطح ولهذا جلدهما رسول الله صلى الله عليه وسلم مع امرأة من قريش، والشهير أنه عبد الله راس النفاق. ويحكى أن صفوان مر بهودجها وهو في ملأ من قومه فقال: من هذه؟ فقالوا: عائشة. فقال: والله ما نجت منه ولا نجا منها وقال: امرأة نبيكم باتت مع رجل حتى أصبحت ثم جاء يقودها. ويروى أن عائشة ذكرت حسانًا وقالت: أرجو له الجنة. فقيل: أليس هو الذي تولى كبره؟ فقالت: إذا سمعت شعره في مدح الرسول صلى الله عليه وسلم رجوت له الجنة. وفي رواية أخرى قالت: واي عذاب أشد من العمى.